في عام 1994، ساق علي شعث ومعه ثلاثة من أصدقائه، سعيد القدرة ومصطفى حرارة ومجد الخالدي من القاهرة إلى فلسطين. كانت تلك زيارة علي الأولى إلى الأرض التي شكلته من بعيد. كانت لحظة أمل وامكانية، وتلك هي اللحظات التي كان علي يعيش من أجلها. كان الرجال الأربعة أول من دخل غزة بعد المراحل المبدئية لاتفاقيات أريحا – أوسلو. في ذلك الوقت، كانت لحظات الحلم بالتغيير٬ وكان هدفهم إتاحة التكنولوجيا بشكل بسيط ورفيع في الوقت نفسه. لم ينم علي في ذلك اليوم، ولا في الأيام العديدة التي تلته، كانت تسيطر عليه الرؤى والأصوات التي كان يتخيلها منذ زمن طويل، بعدها شرع فورًا في العمل.
كان الرجال الأربعة مسؤولين عن البنية التحتية للمعلومات في الضفة الغربية وغزة. واجهوا تحديات مختلفة سواء المعارضة أو الاحتمال الحقيقي للموت. واجهوا ما بدا في ذلك الوقت أنه لا يقهر وهو تحدي هيئة المعلومات، من رواتب موظفي الحكومة إلى تنمية المكونات الصلبة والبرمجيات والتدريب على تفاصيل نقل الإدارة. وضع علي وفريقه القطاع الحكومي على الخريطة، وفي العام الأول من العمل على مدار الساعة أسسوا بنية تحتية معلوماتية واسعة.
شارك علي في جمع وقيادة الخبراء الفلسطينيين من الجامعات والمنظمات غير الحكومية التي تشرف على هذا الانتاج من المعلومات والاحتياجات الإدارية والهندسية للحكومة. ومن خلال تجديد قواعد البيانات والتدريب على "أوراكل" و "أونكس"، مهد علي وفريقه الطريق لوسائل جديدة يمكن أن تؤثر على شكل ومحتوى التعليم الثانوي والعالي. ومن خلال إظهار دقته العملية الفريدة، كما يتذكرها زملاؤه، واجه علي مصاعب فهم الظروف الصعبة والمتغيرة بسرعة وتحويل المناقشات الطويلة بسرعة إلى خطط عمل ملموسة. لقد فتح امكانيات أمام نوع جديد من المعرفة.
عرف علي في ذلك الوقت وفي أوقات كثيرة بذكائه الحاد، وتمثيله لجيل جديد يعد بمستقبل مختلف. لم يكن صوته يعلو ولم يوقفه أبدًا أي صراع صغير، كان معتزًا بنفسه، كان يبني جسورًا من الأمل والعمل الجاد والرؤية.
وكانت معسكرات التعبير الرقمي العربي هي إحدى المحطات التالية لعلي، فهنا يتجمع الشباب من أنحاء العالم العربي في معسكر صيفي ويبدأون في رحلة تعليمية تجريبية حيث يصبح الفن والتكنولوجيا مجالات خصبة للتعبير عن النفس واكتشاف الهوية. فعلى مدار سبعة معسكرات سنوية لعب علي عدة أدوار. أحيانًا كان مدربًا للإنتاج الصوتي، يمنح الصوت معنى جديداً كوسيلة للحكي، وأحيانًا أخرى، كان يحرك المشاركين في المعسكر صباحًا، ويلعب باللغة والجسد بمهارة، وهو مؤشر صغير على كيفية تطور التعبير في مجموعة من الأشكال.
وفي أحيان أخرى، كان علي مدير المعسكر، يضخ فطنته وحكمته في تسيير القوارب. وفي الخلفية كان دائما مخططا للعام المقبل، مع مجموعة من أكثر التقنيين والتربويين والمتحمسين للبرمجيات مفتوحة المصادر والفنانين شغفًا، لتشكيل بنية ومحتوى المعسكرات. كانت جلسات التخطيط تلك تتحول إلى أجزاء من الحياة في المعسكرات، حيث المتعة والفن واكتشاف كل ما هو جديد هو منهج العمل، ذلك العمل الذي يغلفه الحب.
كانت المعسكرات واحدة من البدايات المتعددة لرجل كان يبحث بشكل دائم عن طرق لممارسة التغيير. انحدر علي من نسل معسكرات الكومبيوتر العربية التي بدأت في عام ١٩٨٤ واستمرت لعشر سنوات في تدريب الآلاف من الأطفال العرب على لغات الكمبيوتر الأساسية، في مجال يعزز الثقافة العربية والوعي بالقضية الفلسطينية. كانت المعسكرات ملجأ للشباب الذين أصبحوا نشطاء بارزين في العالم العربي على الجبهة الأمامية في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في عملهم و محاولتهم إحداث تغيير.
لكن المعسكرات لم تكن النهاية بالنسبة لعلي، فبعد الثورة، أصبحت مؤسسة التعبير الرقمي العربي، التي أسسها علي وشريكته رنوة يحيى، موطن المعسكرات وأكثر. اسمها "أضف"، وقد أصبحت هي المنصة لأعمال مجموعات مختلفة في مجالات الفنون والإعلام، مستخدمين أدوات تكنولوجية تشجع الاستدامة والتمكين. وكما في المعسكرات، فقد تحرك علي على كافة الأصعدة في "أضف"، من مهندس كمبيوتر إلى مدير إلى وسيط إلى مدرب ومفاوض إلى فنان وأكثر. فكانت قدرته على التحرك بين الوظائف المختلفة انعكاسًا محتملاً لرغباتنا الطموحة في أوقات متزعزعة، حيث نصبح نحن الوحيدين القادرين على تحويل ما نتخيله إلى حقائق واقعة ملموسة على الأرض.
كان شغف علي بالحياة يأتي من الاكتشافات الجديدة. مثل رجل شرع في تزيين مساحته، أمضى علي وقته في الاكتشاف والجمع، هذه الرحلات اليومية كانت لحظاته من السعادة الخالصة،، نشوة الشعر، الموسيقى، نشوة وضع مجموعة كاريوكي باستخدام الأقراص الصلبة غيرها. قام علي ببناء تشكيلة كبيرة وصغيرة من الاهتمامات التي في مجملها كانت دافعًا للمعرفة لكل من حوله، لكن هذه التشكيلات كانت أيضًا شخصية جدًا في دوافعها، ومع اتساع أوجهها، ظلت مترابطة بعمق. كانت المعرفة لعلي بمثابة مغامرة، وكانت دائمًا رحلة شخصية.
و في "أضِف" تتبع هذه التعددية منطقًا فريدًا، ففي واحدة من أواخر محاولاته للكتابة عن وفرة نشاطات "أضف" المتعددة، قال علي إن المساحة هناك تعتبر مصنعًا ودكانًا في نفس الوقت، حيث يتم الترويج للبرمجيات المفتوحة والدفاع عنها من خلال تنميتها داخل المؤسسة نفسها. وبالمثل، يتم الترويج للتعليم البديل والذاتي، الذي لا يمكن أن يحدث إلا بتنمية وتطوير المنهج التعليمي في الداخل وتدريسه في المعسكرات. كما إنه لا يمكن الترويج للغة العربية على الإنترنت إلا من خلال تطوير أدوات التعريب والإسهام بنشاط في ويكيبيديا بالعربية.
ولأنه يسهل التعلق الشديد بالأدوات بالنسبة للتقنيين، فقد وضع علي الناس نصب عينيه، وقام بالتدريب والإشراف والنصح سواء من خلال المعسكرات أو من خلال تدريب المدربين أو من خلال المشاريع المختلفة التي دعمها. فهناك أشخاص خلف راديوهات الإنترنت يطمحون إلى بث أصواتهم عبر الأمواج يومًا ما، وفنانو جرافيتي يطمحون لمواجهة المدينة بتحيزاتها بين الجنسين، ومصورو فيديو يسعون نحو تحويل محتواهم إلى أرشيفات مفتوحة تصبح بمثابة مستودعات للمعرفة ومواقع نشطة للإنتاج.
كانت هذه أيام الأمل، تمسك علي سريعًا بهذا الأمل واستمر في البناء والتجديد. كان يعود إلى فلسطين عدة مرات منذ زيارته لها في رحلته الأولى في عام 1994. وفي رحلته الأخيرة، خلال آلام المخاض المليئة بالأمل للثورة في مصر وغيرها، التقى علي بجيل جديد من النشطاء، مشاركًا إياهم الاستراتيجيات، وملهمًا بالأفكار الطموحة وكعادته مستمعًا باهتمام.
في تلك الرحلة، وصل علي ونجله نديم إلى حيفا وعكا. وكانت تلك المرة الأولى التي يزور فيها علي المدن الساحلية التي شكلت الخيال والذاكرة. لم يتمسك بالماضي الذي ذهب، وإنما امتص جمال ما تبقى. غنينا مع نديم في السيارة بينما كنا نسافر في الطريق إلى عكا، أكلنا السمك على المتوسط واستمتعنا بجمال كوننا معا، وكان علي كما هو دائمًا، مصدرًا للبصيرة والفطنة، مثالا للحب الأبوي، ملهمًا في حكمته وتجسيدًا للأمل الفريد.
تجمع الكثيرون منا في الساعات المتأخرة للأربعاء ٤ ديسمبر عندما تركنا علي فجأة، مشتتين، فاقدين الوعي، مصدومين من قسوة الفراق. تجمعنا ممزقين من عدم التصديق والألم، وفي أقل من ساعة، كان علي قد رحل، فالمكان الذي يطلق على نفسه "مستشفى" لم يكن لديه جهاز تنشيط القلب بالرجفات الكهربائية أو حتى سيارة إسعاف لإنقاذه من أزمة قلبية متوحشة. وفي طريقه إلى مثواه الأخير، كان شباب المقطم، الذين أصبحت "أضف" بيتًا اختياريًا لهم، هم من حملوا نعشه.
وبعد يوم، ذهبنا جميعًا إلى الإسكندرية، مسقط رأس علي، لوداعه الأخير. كنا نستعد لما توقعنا أنها ستكون رحلة مشؤومة، إلا أن روح علي سرعان ما حلت علينا، وجدنا أنفسنا معًا حول طاولة مع الأطفال، نضحك ونأكل ونتواصل فكريًا ونتذكر.
على فراش الموت، كان علي يرقد بسلام مبتسمًا ربما لتذكيرنا بإرثه الذي تركه من الحب والضحك لنستمر به ومعه. نعاني الآن من خسارة فادحة، لكننا نواسي أنفسنا بالهدايا الكثيرة التي تركها لنا علي، ترك لنا الأمل في المستقبل، الطاقة التي لا تنتهي القائمة على فهم وثيق بالتاريخ، الالتزام بامكانية التغيير، دفئه واستعداده للحركة، سعة صدره للضحك والسعادة، بصيرته وقدرته العميقة على تقدير الفكر النقدي. لقد شملنا بإثارته وأشعلنا بطموحه للحرية، علّمنا أن ننتج المعرفة وأن نجدد استخدامها والوصول إليها. هذه هي الأشياء التي منحنا إياها علي شعث، ومن أجل الوقت الذي قضيناه معه، نعتبر أنفسنا محظوظين.
[ينشر بالتعاون مع مدى مصر. اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية]